الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***
{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث. فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن أمّ سلمة أنها قالت: قلت: يا رسول الله ... فذكره، وقال: غريب ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أن أم سلمة قالت. ورواه ابن أبي حاتم، وابن جرير وابن مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه، من حديث الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، لا نقاتل فنستشهد، ولا نقطع الميراث! فنزلت: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} ثم نزلت: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران: 195]. ثم قال ابن أبي حاتم: وكذا روى سفيان بن عيينة، يعني عن ابن أبي نجيح بهذا اللفظ. وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح، عن الثوري، وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله... وروي عن مقاتل بن حَيّان وخُصَيف نحوُ ذلك. وروى ابن جرير من حديث ابن جريج، عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا أنزلت في أم سلمة. وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن شيخ من أهل مكة قال: نزلت هذه الآية في قول النساء: ليتنا الرجال فنجاهد كما يجاهدون ونغزو في سبيل الله عز وجل. وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية، حدثني أحمد بن عبد الرحمن، حدثني أبي، حدثنا الأشعث بن إسحاق، عن جعفر -يعني ابن أبي المغيرة- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في]قوله[ {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} قال: أتت امرأةٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله، للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل، فنحن في العمل هكذا، إن عملت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة. فأنزل الله هذه الآية: {وَلا تَتَمَنَّوْا} فإنه عدل مني، وأنا صنعته.وقال السدي: قوله: في الآية {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} فإن الرجال قالوا: نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان. وقالت النساء: نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الرجال الشهداء، فإنا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا فأبى الله ذلك، ولكن قال لهم: سلوني من فضلي قال: ليس بعرض الدنيا. وقد روي عن قتادة نحو ذلك. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} قال ولا يتمنى الرجل فيقول: "ليت لو أن لي مال فلان وأهله!" فنهى الله عن ذلك، ولكن يسأل الله من فضله. وكذا قال محمد بن سيرين والحسن والضحاك وعطاء نحو ذلك وهو الظاهر من الآية ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح: "لا حَسَد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسَلَّطَه على هَلَكَتِهِ في الحق، فيقول رجل: لو أن لي مثل ما لفلان لعَمِلْتُ مثله. فهما في الأجر سواء" فإن هذا شيء غير ما نهت الآية عنه، وذلك أن الحديث حَضَّ على تمني مثل نعمة هذا، والآية نهت عن تمني عين نعمة هذا، فقال: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي: في الأمور الدنيوية، وكذا الدينية أيضا لحديث أم سلمة، وابن عباس. وهكذا قال عطاء بن أبي رباح: نزلت في النهي عن تمني ما لفلان، وفي تمني النساء أن يكن رجالا فيغزون. رواه ابن جرير. ثم قال: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} أي: كل له جزاء على عمله بحسبه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهو قول ابن جرير. وقيل: المراد بذلك في الميراث، أي: كل يرث بحسبه. رواه الترمذي عن ابن عباس: ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}]أي[ لا تتمنوا ما فضل به بعضكم على بعض، فإن هذا أمر محتوم، والتمني لا يجدي شيئًا، ولكن سلوني من فضلي أعطكم؛ فإني كريم وهاب. وقد روى الترمذي، وابن مردويه من حديث حماد بن واقد: سمعت إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلُوا الله من فَضْلِه؛ فإن الله يحب أن يسأل وإن أفضل العبادة انتظار الفرج". ثم قال الترمذي: كذا رواه حماد بن واقد، وليس بالحافظ، ورواه أبو نُعَيم، عن إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن رجل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح. وكذا رواه ابن مردويه من حديث وَكِيع، عن إسرائيل. ثم رواه من حديث قيس بن الربيع، عن حكيم بن جُبَير، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله: "سَلُوا الله من فَضْلِه، فإن الله يحب أن يُسأل، وإن أحبَّ عباده إليه الذي يُحب الفرج". ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} أي: هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها، وبمن يستحق الفقر فيفقره، وعليم بمن يستحق الآخرة فيقيضه لأعمالها، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه؛ ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، وأبو صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والسدي، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم في قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} أي: ورثة. وعن ابن عباس في رواية: أي عَصَبة. قال ابن جرير: والعرب تسمي ابن العم مولى، كما قال الفضل بن عباس: مَهْلا بني عَمّنا مَهْلا مَوالينا *** لا تُظْهِرَن لنا ما كان مدفُونا قال: ويعني بقوله: {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ} من تركة والديه وأقربيه من الميراث، فتأويل الكلام: ولكلكم -أيها الناس- جعلنا عصبة يرثونه مما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له. وقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي: والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة -أنتم وهم- فآتوهم نصيبهم من الميراث، كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك، وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا، ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة. قال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا أبو أسامة، عن إدريس، عن طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: ورثة، {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه؛ للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسخت، ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويُوصي له. ثم قال البخاري: سمع أبو أسامة إدريس، وسمع إدريس عن طلحة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إدريس الأوديّ، أخبرني طلحة بن مُصَرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ]} الآية،قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه؛ بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت هذه الآية: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ} نُسخت. ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}. وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حَجّاج، عن ابن جُرَيْج -وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل، يقول: ترثني وأرثك وكان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ حِلْف كان في الجاهلية أو عَقْد أدْرَكَه الإسلامُ، فلا يَزِيدُه الإسلامُ إلا شدَّةً، ولا عَقْد ولا حِلْفٌ في الإسلامِ". فنسختها هذه الآية: {وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75]. ثم قال: وروي عن سعيد بن المُسَيَّب، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وسعيد بن جُبَيْر، وأبي صالح، والشَّعْبِي، وسليمان بن يَسار، وعكرمة، والسُّدِّي، والضَّحَّاك، وقتادة، ومُقاتِل بن حَيَّان أنهم قالوا: هم الحلفاء. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شَريك، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس -ورفعه- قال: "ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا حدة وشدة". وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وكيع، عن شريك، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وحدثنا أبو كريب، حدثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل عن يونس، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حِلْفَ في الإسلام، وكلُّ حِلْف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شِدَّة، وما يَسُرُّني أن لي حُمْرَ النَّعَم وإني نَقَضْتُ الحِلْفَ الذي كان في دار النَّدْوة" هذا لفظ ابن جرير. وقال ابن جرير أيضا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهرى، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "شهِدتُ حِلْف المُطيَّبين، وأنا غُلامٌ مع عُمُومتي، فما أحب أن لي حُمْرَ النَّعَم وأنا أنكثُهُ". قال الزهري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يُصب الإسلامُ حِلْفا إلا زاده شِدَّةً". قال: "ولا حِلْف في الإسلام". وقد ألف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار. وهكذا رواه الإمام أحمد عن بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، بتمامه. وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، أخبرني مغيرة، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف، قال: فقال: "ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به، ولا حِلْفٍ في الإسلام".وكذا رواه أحمد عن هشيم. وحدثنا أبو كريب حدثنا وَكِيع، عن داود بن أبي عبد الله، عن ابن جُدْعان، عن جدته، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا حِلْف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شِدَّةً". وحدثنا أبو كريب، حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح قام خطيبا في الناس فقال: "يا أيها الناس، ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية، لم يَزِدْه الإسْلامُ إلا شِدَّةً، ولا حِلْفَ في الإسلامِ". ثم رواه من حديث حسين المعلم، وعبد الرحمن بن الحارث، عن عَمْرو بن شعيب، به. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا ابن نمير وأبو أسامة، عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا حِلْفَ في الإسْلامِ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا شِدَّةً". وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد، وهو أبو بكر بن أبي شيبة، بإسناده، مثله. ورواه أبو داود عن عثمان عن محمد بن أبي شيبة، عن محمد بن بشر وابن نمير وأبي أسامة، ثلاثتهم عن زكريا -وهو ابن أبي زائدة -بإسناده، مثله. ورواه ابن جرير من حديث محمد بن بشر، به. ورواه النسائي من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق، عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، به. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، قال: مغيرة أخبرنى، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف، فقال: "ما كَانَ مِنْ حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به، ولا حِلْفَ في الإسْلامِ". وكذا رواه شعبة، عن مغيرة -وهو ابن مِقْسَم- عن أبيه، به. وقال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع، مع ابن ابنها موسى بن سعد -وكانت يتيمة في حجر أبي بكر -فقرأت عليها {وَالَّذِيَن عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} فقالت: لا ولكن: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قالت: إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن، حين أبى أن يسلم، فحلف أبو بكر أن لا يورثه، فلما أسلم حين حمل على الإسلام بالسيف أمر الله أن يؤتيه نصيبه. رواه ابن أبي حاتم، وهذا قول غريب، والصحيح الأول، وأن هذا كان في ابتداء الإسلام يتوارثون بالحلف، ثم نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك، وإن كانوا قد أمرُوا أن يوفوا بالعقود والعهود، والحلف الذي كانوا قد تعاقدوا قبل ذلك تقدم في حديث جبير بن مطعم وغيره من الصحابة: لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة. وهذا نص في الرد على ما ذهب إلى التوارث بالحلف اليوم كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن أحمد بن حنبل،رحمه الله. والصحيحُ قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه؛ ولهذا قال تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ} أي: ورثه من أقربائه من أبويه وأقربيه، وهم يرثونه دون سائر الناس، كما ثبت في الصحيحين، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألْحِقُوا الفرائِضَ بأهلها، فما بَقِيَ فهو لأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" أي: اقسموا الميراث على أصحاب الفروض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض، فما بقي بعد ذلك فأعطوه العَصَبة، وقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: قبل نزول هذه الآية فآتوهم نصيبهم، أي من الميراث، فأيما حلف عُقد بعد ذلك فلا تأثير له. وقد قيل: إن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل، وحكم الماضي أيضا، فلا توارث به، كما قال ابن أبي حاتم. حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إدريس الأودي، أخبرني طلحة بن مُصَرّف، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قال: من النصرة والنصيحة والرّفادة، ويوصي له، وقد ذهب الميراث. ورواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن أبي أسامة وكذا روي عن مجاهد، وأبي مالك، نحو ذلك. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَت أَيْمَانُكُمْ} قال: كان الرجل يعاقد الرجل، أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله: {وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائُكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6]. يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، وذلك هو المعروف. وهذا نص غير واحد من السلف: أنها منسوخة بقوله: {وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائُكُمْ مَعْرُوفًا}. وقال سعيد بن جبير: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي: من الميراث. قال: وعاقد أبو بكر مولى فورثه. رواه ابن جرير. وقال الزهري عن سعيد بن المسيب: أنزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم، يورثونهم، فأنزل الله فيهم، فجعل لهم نصيبا في الوصية، ورد الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعَصبة وأبى الله للمدعين ميراثًا ممن ادعاهم وتبناهم، ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية. رواه ابن جرير. وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي: من النصرة والنصيحة والمعونة، لا أن المراد فآتوهم نصيبهم من الميراث -حتى تكون الآية منسوخة، ولا أن ذلك كان حكما ثم نسخ، بل إنما دلت الآية على الوفاء بالحلف المعقود على النصرة والنصيحة فقط، فهي محكمة لا منسوخة. وهذا الذي قاله فيه نظر، فإن من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة، ومنه ما كان على الإرث، كما حكاه غير واحد من السلف، وكما قال ابن عباس: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه، حتى نسخ ذلك، فكيف يقول: إن هذه الآية محكمة غير منسوخة؟! والله أعلم. وهذا الذي تعجب منه ابن كثير، قد بينه الطبري، وأقام عليه كل مذهبه، في كل ناسخ ومنسوخ، وقد كرره مرات كثيرة في تفسيره، وقد أعاده هنا عند ذكر الناسخ والمنسوخ فقال: إن الآية إذ اختلف في حكمها منسوخ هو أم غير منسوخ، واختلف المختلفون في حكمها، وكان لنفى النسخ عنها وإثبات أنها محكمة وجه صحيح، لم يجز لأحد أن يقضى بأن حكمها منسوخ، إلا بحجة يجب التسليم لها، وقد بين أبو جعفر مرارًا أن الحجة التي يجب التسليم لها هي: ظاهر القرآن، والخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما تأويل ابن عباس أو غيره من الأئمة، فليس حجة في إثبات النسخ في آية، لتأويلها على أنها محكمة وجه صحيح. فالعجب لابن كثير، حين عجب من أبي جعفر في تأويله وبيانه، ولو أنصف لنقض حجة الطبري في مقالته في الناسخ والمنسوخ، لا أن يحتج عليه ويتعجب منه، لحجة هى منقوضة عند الطبري، قد أفاض في نقضها مرارًا في كتابه هذا، وفي غيرها من كتبه كما قال، رحم الله أبا جعفر، وغفر الله لابن كثير".
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} يقول تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} أي: الرجل قَيّم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجَّت {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي: لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة؛ ولهذَا كانت النبوة مختصة بالرجال وكذلك المُلْك الأعظم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يُفلِح قومٌ وَلَّوا أمْرَهُم امرأة" رواه البخاري من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه وكذا منصب القضاء وغير ذلك. {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أي: من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهنَّ في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قَيّما عليها، كما قال]الله[} تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} الآية [البقرة: 228]. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} يعني: أمراء عليها أي تطيعه فيما أمرها به من طاعته، وطاعتُه: أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله. وكذا قال مقاتل، والسدي، والضحاك. وقال الحسن البصري: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعديه على زوجها أنه لَطَمَها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القِصَاص"، فأنزل الله عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية، فرجعت بغير قصاص. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من طرق، عنه. وكذلك أرسل هذا الخبر قتادة، وابن جُرَيج والسدي، أورد ذلك كله ابن جرير. وقد أسنده ابن مردويه من وجه آخر فقال: حدثنا أحمد بن علي النسائي، حدثنا محمد بن عبد الله الهاشمي، حدثنا محمد بن محمد الأشعث، حدثنا موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد، حدثني أبي، عن جدي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال: أتى النبي رجل من الأنصار بامرأة له، فقالت: يا رسول الله، إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري، وإنه ضربها فأثر في وجهها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليْسَ ذَلِكَ لَه". فأنزل الله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ] أي: قوامون على النساء في الأدب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرَدْتُ أمْرًا وأرَادَ الله غَيْرَه". وقال الشعبي في هذه الآية: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} قال: الصداق الذي أعطاها، ألا ترى أنه لو قَذَفَها لاعنَها، ولو قذفته جُلِدت. وقوله: {فَالصَّالِحَاتُ} أي: من النساء {قانِتَاتٌ} قال ابن عباس وغير واحد: يعني مطيعات لأزواجهن {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ}. قال السدي وغيره: أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله. وقوله: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} أي: المحفوظ من حفظه. قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا أبو صالح، حدثنا أبو مَعْشَر، حدثنا سعيد بن أبي سعيد الْمقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيرُ النساءِ امرأةٌ إذا نَظَرْتَ إليها سَرَّتْكَ وإذا أمَرْتَها أطاعتكَ وإذا غِبْتَ عنها حَفِظتْكَ في نَفْسِها ومالِكَ". قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} إلى آخرها. ورواه ابن أبي حاتم، عن يونس بن حبيب، عن أبي داود الطيالسي، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، به مثله سواء. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعة، عن عُبيد الله بن أبي جعفر: أن ابن قارظ أخبره: أن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صَلَّت المرأة خَمسها، وصامت شهرها وحفظت فَرْجَها؛ وأطاعت زوجها قِيلَ لها: ادخُلِي الجنة من أيِّ أبواب الجنة شِئْتِ". تفرد به أحمد من طريق عبد الله بن قارظ عن عبد الرحمن بن عوف. وقوله تعالى {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} أي: والنساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن. والنشوز: هو الارتفاع، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها، التاركة لأمره، المُعْرِضَة عنه، المُبْغِضَة له. فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظْها وليخوّفها عقابَ الله في عصيانه فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته، وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كُنْتُ آمرًا أحدًا أن يَسْجد لأحد لأمرتُ المرأة أن تَسْجُدَ لزوجها، من عِظَم حَقِّه عليها" وروى البخاري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دَعَا الرَّجُلُ امرَأتَهُ إلى فِرَاشِه فأبَتْ عليه، لَعَنَتْهَا الملائكة حتى تُصْبِح" ورواه مسلم، ولفظه: "إذا باتت المرأة هَاجرة فِراش زَوْجِها، لعنتها الملائكة حتى تُصبِح"؛ ولهذا قال تعالى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ}. وقوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الهجران هو أن لا يجامعها، ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره. وكذا قال غير واحد، وزاد آخرون -منهم: السدي، والضحاك، وعكرمة، وابن عباس في رواية-: ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها. وقال علي بن أبي طلحة أيضا، عن ابن عباس: يعظها، فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع، ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها شديد. وقال مجاهد، والشعبي، وإبراهيم، ومحمد بن كعب، ومِقْسم، وقتادة: الهجر: هو أن لا يضاجعها. وقد قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن أبي حرّة الرقاشي، عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فَإِن خِفْتُمْ نُشُوزَهُنَّ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ" قال حماد: يعني النكاح. وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: يا رسول الله، ما حق امرأة أحدنا؟ قال: "أن تُطعمها إذا طَعِمْتَ، وتكسوها إذا اكْتَسَيْتَ، ولا تَضْرِب الوَجْهَ ولا تُقَبِّح، ولا تَهْجُر إلا في البَيْتِ". وقوله: {وَاضْرِبُوهُنَّ} أي: إذا لم يَرْتَدِعْن بالموعظة ولا بالهجران، فلكم أن تضربوهن ضربا غير مبرح، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال في حجة الوداع: "واتَّقُوا اللهَ في النِّساءِ، فإنهن عندكم عَوَانٌ، ولكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فُرُشكم أحدا تكرهونه، فإن فَعَلْن فاضربوهن ضَرْبا غير مُبَرِّح، ولهن رزْقُهنَّ وكِسْوتهن بالمعروف". وكذا قال ابن عباس وغير واحد: ضربا غير مبرح. قال الحسن البصري: يعني غير مؤثر. قال الفقهاء: هو ألا يكسر فيها عضوا ولا يؤثر فيها شيئا. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يهجرها في المضجع، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضرب ضربا غير مبرح، ولا تكسر لها عظما، فإن أقبلت وإلا فقد حَل لك منها الفدية. وقال سفيان بن عُيَينة، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن إياس بن عبد الله بن أبي ذُباب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَضْرِبوا إماءَ اللهِ". فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئِرَت النساء على أزواجهن. فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أطافَ بآل محمد نِسَاءٌ كثير يَشْكُونَ أزواجهن، ليس أولئك بخياركم" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود -يعني أبا داود الطيالسي- حدثنا أبو عوانة، عن داود الأوْدِيِّ، عن عبد الرحمن المُسْلي عن الأشعث بن قيس، قال ضفْتُ عمر، فتناول امرأته فضربها، وقال: يا أشعث، احفظ عني ثلاثا حَفظتهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَسألِ الرَّجُلَ فِيمَ ضَرَبَ امرَأَتَهُ، ولا تَنَم إلا على وِتْر... ونسي الثالثة. وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، من حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي عوانة، عن داود الأوديّ، به. وقوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} أي: فإذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريد منها، مما أباحه الله له منها، فلا سبيل له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها ولا هجرانها. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب، فإن الله العلي الكبير وليهن وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن.
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} ذكر[تعالى] الحال الأول، وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة، ثم ذكر الحال الثاني وهو: إذا كان النفور من الزوجين فقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} قال الفقهاء: إذا وقع الشقاق بين الزوجين، أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة، ينظر في أمرهما، ويمنع الظالم منهما من الظلم، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما، بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة، وثقة من قوم الرجل، ليجتمعا وينظرا في أمرهما، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق وتَشَوف الشارع إلى التوفيق؛ ولهذا قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أمر الله عز وجل، أن يبعثوا رجلا صالحًا من أهل الرجل، ورجلا مثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء، فإن كان الرجل هو المسيء، حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة، قصروها على زوجها ومنعوها النفقة. فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا، فأمرهما جائز. فإن رأيا أن يجمعا، فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر، ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين، قال معمر: بلغني أن عثمان بعثهما، وقال لهما: إن رأيتما أن تُجْمَعا جُمِعْتُما، وإن رأيتما أن تُفَرَّقا فُرَّقْتما. وقال: أنبأنا ابن جريج، حدثني ابن أبي مليكة، أن عَقيل بن أبي طالب تَزَوَّج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت: تصير إليَّ وأنفق عليك. فكان إذا دخل عليها قالت: أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة؟ قال: على يسارك في النار إذا دخلت. فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان، فذكرت له ذلك فضحك وأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس: لأفرِّقَن بينهما. فقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف. فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا. وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: شهدت عليا وجاءته امرأة وزوجها، مع كل واحد منهما فِئَام من الناس، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما، فقال علي للحَكَمَين: أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا، جمعتما. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعَليّ. وقال الزوج: أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت، والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله، عز وجل، لك وعليك. رواه ابن أبي حاتم، ورواه ابن جرير، عن يعقوب، عن ابن علية، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي، مثله. ورواه من وجه آخر، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي، به. وهذا مذهب جمهور العلماء: أن الحكمين إليهما الجمع والتفرقة، حتى قال إبراهيم النخعي: إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاث فعلا. وهو رواية عن مالك. وقال الحسن البصري: الحكمان يحكمان في الجمع ولا يحكمان في التفريق، وكذا قال قتادة، وزيد بن أسلم. وبه قال أحمد بن حنبل، وأبو ثور، وداود، ومأخذهم قوله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ولم يذكر التفريق. وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين، فإنه يُنَفَّذُ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف. وقد اختلف الأئمة في الحكمين: هل هما منصوبان من عند الحاكم، فيحكمان وإن لم يرض الزوجان، أو هما وكيلان من جهة الزوجين؟ على قولين: فالجمهور على الأول؛ لقوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} فسماهما حكمين، ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه، وهذا ظاهر الآية، والجديدُ من مذهب الشافعي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. الثاني منهما، بقول علي، رضي الله عنه، للزوج -حين قال: أما الفرقة فلا- قال: كذبت، حتى تقر بما أقرت به، قالوا: فلو كانا حاكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج، والله أعلم. قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: وأجمع العلماء على أن الحكمين -إذا اختلف قولهما- فلا عبرة بقول الآخر، وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان، واختلفوا: هل ينفذ قولهما في التفرقة؟ ثم حكي عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أيضا.
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له؛ فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الآنات والحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه، ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "أتَدْرِي ما حَقُّ الله على العباد؟" قال: الله ورسوله أعلم. قال: "أن يَعْبدُوهُ ولا يُشْرِكُوا به شيئا"، ثم قال: "أتَدْري ما حَقُّ العبادِ عَلَى اللهِ إذا فَعَلُوا ذلك؟ ألا يُعَذِّبَهُم" ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين، فإن الله، سبحانه، جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود، وكثيرا ما يقرنُ الله، سبحانه، بين عبادته والإحسان إلى الوالدين، كقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] وكقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]. ثم عطف على الإحسان إلى الوالدين الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء، كما جاء في الحديث: "الصَّدَقَةُ عَلَى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وعَلَى ذِي الرَّحِم صَدَقَةٌ وصِلَةٌ". ثم قال: {وَالْيَتَامَى} وذلك لأنهم قد فقدوا من يقوم بمصالحهم، ومن ينفق عليهم، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم. ثم قال: {وَالْمَسَاكِينِ} وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم، فأمر الله بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم. وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة. وقوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} قال علي بن أبي طَلْحَةَ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} يعني الذي بينك وبينه قرابة، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} الذي ليس بينك وبينه قرابة. وكذا رُوِيَ عن عِكْرِمةَ، ومُجَاهد، وميمون بنِ مهْرانَ، والضحاك، وزيد بْنِ أَسْلَمَ، ومقاتل بن حيَّان، وقتادة. وقال أبو إسحاق عن نَوْف البِكَالِي في قوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} يعني المسلم {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} يعني اليهودي والنصراني رواه ابنُ جَريرٍ، وابنُ أبي حَاتم. وقال جَابِرٌ الْجُعْفِيّ، عن الشعبي، عن علي وابنِ مسعود: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} يعني المرأة. وقال مُجَاهِد أيضا في قوله: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} يعني الرفيق في السفر. وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار، فنذكر منها ما تيسر، والله المستعان: الحديث الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمر بن محمد بن زيد: أنه سمع أباه محمدًا يحدث، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما زال جِبرِيل يوصيني بالْجَارِ حَتِّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِثُه". أخرجاه في الصحيح من حديث عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، به. الحديث الثاني: قال الإمامُ أحمدُ: حدثنا سُفْيَانُ، عن داودَ بنِ شَابُورٍ، عن مجاهد، عن عبد الله بن عَمْرٍو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالْجَارِ حتى ظننْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ".وروى أبو داود والترمذي نحوه، من حديث سفيان بن عيينة، عن بَشِيرِ أبي إسْمَاعيلَ -زاد الترمذي: وداود بن شابور -كلاهما عن مجاهد، به ثم قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه وقد رُوي عن مجاهد عن عائشةَ وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. الحديث الثالث عنه: قال أحمد أيضا: حدثنا عبد الله بن يَزِيد، أخبرنا حَيْوةُ، أخبرنا شَرْحَبِيلُ بنُ شُرَيكٍ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يحدث عن عبد الله بْنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خَيْرُ الأصْحَابِ عِندَ اللهِ خَيْرُهُم لِصَاحِبِهِ، وخَيْرُ الجِيرانِ عند اللهِ خيرهم لِجَارِهِ". ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن المبارك، عن حيوة بن شريح -به، وقال: [حديث] حسن غريب. الحديث الرابع: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عن عُمَر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَشْبَعُ الرجل دون جَارِهِ". تفرد به أحمد. الحديث الخامس: قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن فضيل بن غَزْوان، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري، سمعت أبا ظَبْية الكَلاعِيّ، سمعت المقدادَ بن الأسود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ["ما تقولون في الزنا؟" قالوا: حرام حَرَّمَهُ اللهُ ورسُولُه، فهو حرام إلى يوم القيامة. فقال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم] لأنْ يَزني الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَة، أَيْسَرُ عليه من أَن يزنيَ بامرَأَةِ جَارِهِ". قال: ما تقولون في السَّرِقَة؟ قالوا: حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ فهي حرام. قَالَ "لأن يَسْرِقَ الرجل مِن عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يسرِقَ مِنْ جَارِهِ". تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيحين من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ: قلت: يا رسول الله، أيُّ الذَّنْب أَعْظَمُ؟ قَالَ: "أن تجعل لله نِدًّا وهُوَ خَلَقَكَ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قال: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَن يُطْعَم معك". قُلتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قَالَ: "أَنْ تُزَاني حَليلةَ جَارِكَ". الحديث السادس: قال الإمامُ أحمد: حدثنا يَزِيدُ، أخبرنا هِشَامُ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أبِي الْعَالية، عَنْ رَجُلٍ من الأنصار قال: خَرَجْتُ من أهلي أريدُ النبي صلى الله عليه وسلم، فإذَا به قَائِمٌ ورجل مَعَهُ مُقْبِل عَليه، فَظَنَنْتُ أَنَّ لهما حَاجة -قَالَ الأنْصَارِيُّ: لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أَرْثِي لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من طُولِ الْقِيَامِ، فَلمَّا انْصَرفَ قُلْتُ: يا رسول الله، لقد قام بك هذا الرَّجُلُ حتى جَعَلْتُ أَرْثِي لَك من طُولِ الْقِيَامِ. قال: "وَلَقَدْ رَأَيتَه؟" قُلتُ: نعم. قَالَ: "أَتَدْرِي مَن هُوَ؟" قُلْتُ: لا. قَال: "ذَاكَ جِبْرِيِلُ،ما زال يُوصِينِي بِالجِارِ حتى ظَنَنْتُ أَنَّه سَيُورثُه. ثُمَّ قال: أَمَا إِنَّك لَو سَلَّمْتَ عليه، رد عليك السلام". الحديث السابع: قال عبد بن حُمَيْدٍ في مسنده: حدثنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْد، حدثنا أَبُو بَكْرٍ -يعني الْمدَنيّ- عن جابر بن عبد الله قال: جاء رجل من الْعَوَالِي ورسول الله صلى الله عليه وسلم وجِبْرِيلُ عليه السلام يُصَلِّيانِ حَيْثُ يُصَلَّى على الْجَنائِز، فلما انصرف قال الرجل: يا رسولَ الله، من هذا الرجل الذي رأيت معك؟ قال: "وقد رأيْتَه؟" قال: نعم. قال: "لقد رأَيْتَ خَيْرًا كثيرًا، هَذَا جِبْرِيلُ مَا زَالَ يُوصِينِي بالجار حتى رُئِيت أَنَّه سَيُورثُه". تفرد به من هذا الوجه وهو شاهد للذي قبله. الحديث الثامن: قال أبو بكر البزار: حدثنا عبيد الله بن محمد أبو الرَّبِيعِ الْحَارِثِيّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْن أَبِي فُدَيْك، أخبرني عبد الرَّحمن بنُ الْفَضل عن عَطَاء الخَراساني، عن الحسن، عن جابر بنِ عَبْدِ الله قال: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الجِيرانُ ثَلاثَةٌ: جَارٌ لهُ حَقٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَدْنَى الجيرانِ حقًّا، وجار له حقَّان، وجَارٌ له ثلاثةُ حُقُوقٍ، وَهُوَ أفضلُ الجيرانِ حقا، فأما الذي له حق واحد فجار مُشْرِكٌ لا رَحمَ لَهُ، لَهُ حق الجَوار. وأمَّا الَّذِي لَهُ حقانِ فَجَارٌ مُسْلِمٌ، له حق الإسلام وحق الْجِوارِ، وأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلاثةُ حُقُوقٍ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ لَهُ حق الجوار وحق الإسلام وحَقُّ الرحِمِ". قال البَزَّارُ: لا نعلم أحدا روى عن عبد الرحمن بن الْفُضَيْل إلا ابْنُ أَبِي فُدَيْك. الحديث التاسع: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي عِمْرَانَ، عنْ طَلْحَةَ بنِ عَبْد اللهِ، عن عائشة؛ أنها سألت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالت: "إنَّ لي جَارَيْنِ، فإلى أيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: "إِلَى أقْرَبِهِمَا مِنْك بَابًا". ورواه البخاري من حديث شعبة، به. وقوله: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قال الثوريُّ، عن جابر الْجُعْفِي، عن الشَّعبي، عن علي وابنِ مسعودٍ قالا هي المرأة. وقال ابن أبي حاتم: ورُويَ عن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى، وإبراهيم النَّخَعِيّ، والحسن، وسعيد بن جُبَير -في إحدى الروايات- نحوُ ذلك. وقال ابن عباس ومجاهدٌ، وعِكْرِمَةُ، وقَتَادةُ: هو الرفيق في السفر. وقال سعيد بن جُبَيْرٍ: هو الرفيق الصالح. وقال زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ: هو جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر. وأما {ابْنِ السَّبِيلِ} فعن ابن عباس وجماعة هو: الضيف.وقال مجاهد، وأبو جَعْفَرٍ الباقرُ، والحسنُ، والضحاكُ، ومقاتلُ: هو الذي يمر عليك مجتازًا في السفر. وهذا أظهر، وإن كان مراد القائل بالضيف: المار في الطريق، فهما سواء. وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة، وبالله الثقة وعليه التكلان. وقوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وصية بالأرقاء؛ لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس، ولهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يُوصِي أُمَّتَه في مرضِ الموت يقول: "الصلاةَ الصلاةَ وما ملكتْ أيمانُكُم". فجعل يُرَدِّدُها حتى ما يَفِيضُ بها لسانه. وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا بَقِيّة، حدثنا بَحِيرُ بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان، عن الْمِقْدَامِ بن مَعْدِ يكَرِب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أطعمت نَفْسَك فهو لك صدقةٌ، وما أطعمتَ وَلَدَكَ فهو لك صدقة، وما أطعمت زَوْجَتَكَ فهو لك صَدَقَةٌ، ومَا أطعَمْتَ خَادِمَكَ فهو لَك صَدَقَهٌ". ورواه النسائي من حديث بَقِيَّة، وإسناده صحيح ولله الحمد. وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لِقَهْرَمَانَ له: هل أعطيت الرقيق قُوتَهم؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعطهم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم" رواه مسلم. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للمملوك طعامه وكِسْوتُه، ولا يكلَّف من العمل إلا ما يُطيق". رواه مسلم أيضا. وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمةً أو لقمتين أو أكْلَةً أو أكْلَتين، فإنه وَليَ حَرّه وعلاجه". أخرجاه ولفظه للبخاري ولمسلم فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مَشْفُوها قليلا فَلْيضع في يده أكلة أو أكلتين". وعن أبي ذر، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هم إخوانكم خَوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم، فأعينوهم". أخرجاه. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} أي: مختالا في نفسه، معجبا متكبرا، فخورا على الناس، يرى أنه خير منهم، فهو في نفسه كبير، وهو عند الله حقير، وعند الناس بغيض. قال مجاهد في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا} يعني: متكبرا {فَخُورًا} يعني: يَعُد ما أعطي، وهو لا يشكر الله، عز وجل. يعني: يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه، وهو قليل الشكر لله على ذلك. وقال ابن جرير: حدثني القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن كَثيرٍ، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي قال: لا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورا -وتلا {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا]} ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا -وتلا {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 32]. وروى ابن أبي حاتم، عن العوام بن حَوْشَبٍ، مثله في المختال الفخور. وقال: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا الأسود بن شَيْبَان، حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير قال: قال مُطَرِّف: كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت: يا أبا ذر، بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم: "إن الله يحب ثلاثة ويُبْغض ثلاثة"؟ قال: أجل، فلا إخالنى أكذب على خليلي، ثلاثا. قلت: من الثلاثة الذين يبغض الله؟ قال: المختال الفخور، أوليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل؟ ثم قرأ الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} [النساء: 36]. وحدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وُهَيْبُ عن خالد، عن أبي تَمِيمَةَ عن رجل من بَلْهُجَيم قال: قلت يا رسول الله، أوصني. قال: "إياك وإسبالَ الإزار، فإن إسبال الإزار من المَخِيلة، وإن الله لا يحب المَخِيلة".
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} يقول تعالى ذامًّا الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به -من بر الوالدين، والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجُنُب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم من الأرقاء -ولا يدفعون حق الله فيها، ويأمرون الناس بالبخل أيضا. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأي داء أَدْوَأ من البخل؟". وقال: "إياكم والشّحَ، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعةِ فقطعوا، وأمرهم بالفجور فَفَجَرُوا". وقوله: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فالبخيل جَحُود لنعمة الله عليه لا تظهر عليه ولا تبين، لا في أكله ولا في ملبسه، ولا في إعطائه وبذله، كما قال تعالى: {إِنَّ الإنْسَاَن لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات: 6، 7] أي: بحاله وشمائله، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] وقال هاهنا: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ولهذا توعَّدهم بقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} والكفر هو الستر والتغطية، فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها، فهو كافر لنعم الله عليه. وفي الحديث: "إن الله إذا أنعم نعمةً على عبدٍ أحبَّ أن يَظْهَرَ أثرُها عليه" وفي الدعاء النبوي: "واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك قابليها -ويروى: قائليها- وأتممها علينا". وقد حمل بعضُ السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم، من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وكتمانهم ذلك؛ ولهذا قال: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} رواه ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس. وقاله مجاهد وغير واحد. ولا شك أن الآية محتملة لذلك، والظاهر أن السياق في البخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى؛ فإن سياق الكلام في الإنفاق على الأقارب والضعفاء، وكذا الآية التي بعدها،وهي قوله: {والَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} فَذَكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء، ثم ذكر الباذلين المرائين الذي يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يُمدَحوا بالكرم، ولا يريدون بذلك وجه الله، وفي حديث الذي فيه الثلاثة الذين هم أول من تُسَجَّرُ بهم النار، وهم: العالم والغازي والمنفق، والمراءون بأعمالهم، يقول صاحب المال: ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك. فيقول الله: كذبت؛ إنما أردت أن يقال: جواد فقد قيل. أي: فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك. وفي الحديث: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لِعَدِيّ: "إن أباك رامَ أمرًا فبلغه". وفي حديث آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عبد الله بن جُدعان: هل ينفعه إنفاقُه، وإعتاقُه؟ فقال: "لا إنه لم يقل يوما من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". ولهذا قال: {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا] أي: إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيحِ وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطانُ؛ فإنه سَوَّلَ لهم وأملى لهم، وقارنهم فحسّن لهم القبائح {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} ولهذا قال الشاعر: عَن المَرْء لا تَسْأل وسَلْ عن قَرينه *** فكلُّ قرين بالمقارن يَقْتَدي ثم قال تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ [وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا] أي: وأيّ شيء يَكرثُهم لو سلكوا الطريق الحميدة، وعَدَلُوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان بالله، ورجاء موعوده في الدار الآخرة لمن أحسن عملا وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها. وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} أي: وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه ويلهمه رشده ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم الإلهي، الذي مَنْ طُرِدَ عن بابه فقد خاب وخَسِرَ في الدنيا والآخرة، عياذا بالله من ذلك [بلطفه الجزيل].
|